فصل: مدخل:(حول علم التفسير:)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.مدخل:(حول علم التفسير:)

242 - كان بعض أساتذتنا - رحمهم الله - يرى أن القرآن الكريم لا يحتاج إلى تفسير إلَّا في بعض الألفاظ الغريبة على القارئ، فإنه يستعين عليها بالمعاجم تبينها، أو بالأحرى تقرّبها للقارئ، وإلَّا بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة، فإنها تفصِّلها وتوضّح بالعمل والقول مراميها وغياتها، وما عدا ذلك فإنه بَيِّن لا يحتاج إلى بيان، إلَّا أن يكون متشابهًا لم يعرف بيانه بسنة ثابتة السند، فإن هذا لا تفسير له، ومن الحقِّ أن يقول فيه التالي لكتاب الله سبحانه وتعالى: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وكما قال تعالى في الراسخين في العلم: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8]. هذا نظر أستاذنا الكبير - بلَّل الله تعالى ثراه.
ولا شكَّ أنَّ قول هذا له سند من القرآن الكريم، فقد وصف بأنه مبين، أي: بَيِّن، والبيِّن لا يحتاج إلى تبيين، ووصف آياته بأنها بينات، فقد قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
وقال تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1].
وقال تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1].
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195].
وقال تعالى: {طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1].
ويقول - جل شأنه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا} [الجاثية: 25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 34].
وإنَّ هذا كله يدل على أنَّ القرآن بَيِّنٌ، وكيف يحتاج الكلام البيِّن إلى من يبينه، إنه يبين نفسه، وهذا بخلاف المجمل من آيات الأحكام، فإنه قد جاء النص بأنه يبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
243 - هذه نظرة خاطرة لأحد شيوخنا، وعلَّل الذي دفعه إلى ذلك القول ما تورَّط فيه بعض المفسرين من نقل إسرائيليات قد تفسد المعنى الذي يبدو بادي الرأي من الآيات الكريمات، وأنَّ بعض كتب التفسير التي تأخذ ذلك المأخذ، وتتجه إلى الإكثار من القصص والأساطير الإسرائيلية تضع ستارًا كثيفًا بين الآية الكريمة ونورانيتها المشرفة، فهو - رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم خيرًا - يريد أن يجد التالي للقرآن الإشراق والنور من غير حجب يحجبها من روايات ما أنزل الله بها من سلطان.
وإن لذلك القول وجاهته، وإنك بلا شك لو تتبعت أكثر آيات القرآن الكريم التي لم تتعرّض للأحكام العملية تجدها واضحة بينة، وإن استبهمت علينا بعض الكلمات لبقايا العجمة فينا، فإنَّ المعاجم تحل لنا إشكالنا، وهو لعيب فينا وليس لإبهام في القرآن ينافي وصفه بأنه مبين، وآياته بينات.
وإذا كان ثمة موضع للتفسير، فإنه يكون بتوجيه الأنظار للأسرار القرآن البيانية، والمرتبة العليا البلاغية التي لا تناهد، ولا تسامي، وليس في قوة أحد من البشر أن يأتوا بمثلها.
وإنَّ الزمخشري حاول ذلك في تفسيره، ووصل في كثير من الآيات إلى توجيه القارئ إلى الأسرار البلاغية، ونهجَ من بعده من سلك ذلك المسلك، وحاول محاولته.
ونحن نرى أنَّ هذه محاولات ناجحة في جملتها، وفي كثير من آيات الكتاب، ولكنا لا نحسب أنَّهم وصلوا إلى الغاية أو أدركوا نهايته، فإنه كتاب الله العزيز الحكيم، لا تتناهى معانيه، ولا يحاط بكل مغازيه، وإن تلك المحاولات مفاتيح للنور، ولكنها ليست النور.
244 - بعد هذه المقدمة التي لا بُدَّ أن نذكرها لنعرف مدى الجهود التي تبذل، والغاية التي تغيا عند محاولة التفسير، وإن كنَّا نؤمن بأنَّ القرآن كتاب مبين، لا يحتاج إلى بيان، ولكنَّا نحتاج إن كان في قدرتنا إلى أن نتعرف أسرار بلاغته، وموضع فصاحته، ونقارب ولا نحد، ونسدد وإن كنا لا ندرك، ولا تصيب سهامنا، ولا نصل إلى حال يكون معها يقين بأنَّ ما وصلنا إليه هو سر الإعجاز، وغاية البيان.
وبجوار الذين قالوا: إن القرآن مبين بذاته لا يحتاج إلى من يبينه، ويفسره، وكان من يرى أنَّ القرآن يتعبّد به، ويتلَى تلاوة، ولا تتعرّف معانيه إلَّا بتعريف من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولا شك أنَّ ذلك القول غريب، ولكن وجدناه في كتب المعتزلة، وجدنا القاضي عبد الجبار يذكره في كتابه (المغني)، ويستدل على بطلانه فيقول: الذي قدَّمناه الآن يدل على فساد قولهم. أي: إننا لا نطلب دلالة القرآن؛ لأنَّا قد بيَّنَّا أنه يقع منه تعالى على وجه يدل على المراد، كوقوعه من أحدنا إذا تكامل على شرط دلالته، ألا يصح منه تعالى أن يخاطب به وهو موضوع لفائدة إلّا وهو يريدها، وإلّا كان في حكم العابث، وقد ذكر شيخنا أبو هاشم - رحمه الل - ه أنه إذا لم يكن معنى يستدل به عليه، أو به وبغيره، فلا فرق بين كونه على هاتين الصفتين، ويبيِّن أن يكون الكلام من المخاطب بهذه الصفة، أي: إنه إذ لم يكن له دلالة، فلا فرق بين أن يكون عربيًّا أو عجميًّا من يقرؤه.
ثم يقول: ولا خلاف بين المسلمين أنَّ القرآن يدلُّ على الحلال والحرام، والكتاب قد نطق بذلك؛ لأنه تعالى قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} [النساء: 82]، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ}، إلى غير ذلك مما يبيِّن به أنه يفيد، فكيف يصح مع ذلك ما قالوه؟.
ويفهم من هذا الكلام أنَّ ثمَّة من الناس من يرى أن القرآن للتلاوة والتعبُّد بتلاوته، وقراءته في الصلاة، كما يفعل الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، وأنه يسوق الأدلة لبطلان هذا القول فيقول: وبيِّن شيوخنا أنه لو لم يكن له معنى لا يكون معجزًا، لأنَّ إعجازه هو بما يحصل من المزية والرتبة في قدر الفصاحة، ولا يكون الكلام فصيحًا إلَّا بحسن معناه وموقعه واستفاضته، كما لا يكون فصيحًا إلَّا بجزالة لفظه، ولو أنَّ واحدًا من المتكلمين ألَّف الكلام المهمل جملة، وتكلَّم بها من غير مواضعه لم يعد من الكلام الفصيح، كما لو كان في معناه ركاكة لم يكن منه، وكما لو ركَّ لفظه لم يعد في ذلك، فكيف لمن أقرَّ أنه معجز أن يزعم أنَّه لا معنى له، وأنه لا فائدة منه.
هذا كلام القاضي عبد الجبار، ولولا نقله لهذا الكلام ما تصورنا أن يوجد من يقول إن القرآن لا يطلب معناه، وأن القصد منه التعبد بالتلاوة في الصلاة، وخارج الصلاة.
ولعلَّ الذي دفع هؤلاء إلى ذلك القول إن صحّ نقله أنهم يتوقفون خشية أن ينحرف بهم الفكر، فيصرفوا معاني القرآن إلى غيرها لانحراف في التفكير، أو تزيد عليه، فرأوا أن يكتفوا بالتلاوة والتعبُّد بها واقفين عند ذلك، حتى لا يقولوا على الله بغير علم.
ومهما يكن مقصدهم، فإنَّ ذلك الرأي إذا قاله قائل لا يؤخذ به، ولا نعلم أحدًا قاله إلا ما تعلَّمنا من المغني.
245 - إنَّ القرآن مقصود بمعانيه وبتلاوته، وترطيب الأسماع به، وبالتعبُّد به وبألفاظه، فكلّ ما اشتمل عليه مقصود لذاته، لا بالتبعية لغيره، فهو مأدبة الله تعالى.
وقد يقول قائل: إذا كان القرآن بينًا وإنه لكذلك، فما مكان التفسير في ذلك؛ لأنَّ التفسير لا يكون إلَّا عند حاجة للتبيين، والقرآن الكريم كما تلونا من قبل كتاب مبين، وقرآن مبين، وبلسان عربي مبين، وهل يستغنى عنه.
ويبدو لي أنَّ العربي الذي لم تلتوِ لغته برطانة غير عربية، ويفهم العربية لا يحتاج إلى تفسير إلَّا فيما يتعلق بآيات التكليف العملي والأحكام العملية، وما يستنبط من القرآن، وإنها لتتفاوت في ذلك تفاوتًا كبيرًا.
ومهما يكن فإنَّ التفسير علم يدرس، وهو مفيد، وهو قائم منذ عهد التابعين إلى اليوم.
وله بلا ريب فوائده، وله غاية إن سلك المفسِّر الطريقة المثلى، وإن جعل المفسر مرامي القرآن هي المقصودة، ولا يتجه بكتاب الله إلى تحريف المعاني، والانحراف عن المقاصد، وإنه لا بُدَّ من التفسير لأمور كثيرة:
أ - العمل على ربط معاني القرآن بما ورد في السنة الصحيحة من بيانه، وفي استعانة بالمبين للقرآن وهو الحديث، ووضعه في مواضعه، حتى لا تضل الأفهام في فهم معاني الأحكام؛ ولأنَّ بعض ألفاظه يشترك بين عدة مدلولات، والسنة النبوية هي التي تحدد المدلول المراد.
ب - وإنَّ الذين يقرءون القرآن لبسوا جميعًا في مستوى العربي الذي يدرك معاني الألفاظ بمجرد استماعها، ومن الألفاظ ما فيه بعض الغرابة حتى على بعض العرب، بل بعض كبارهم، ولقد روي أن عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين لم يتبيِّن عنده معنى لفظ {أبَّا} في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فقد سأل عن معنى الأب، واستكثر رضي الله تعالى عنه على نفسه ألَّا يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ القرآن.
هذا عمر رضي الله عنه يغيب عنه معنى لفظ من ألفاظ كتاب الله تعالى، فكيف تكون حال من دونه من الصحابة علمًا، وكيف تكون حالنا نحن الذين دخلنا العربية وفينا العجمة التي غلبت الفصحى في كل مكان.
ج - ولا بُدَّ من بعد ذلك من تفسير إلى اللغات غير العربية، أو يفسّر القرآن ابتداءً بغير العربية على أنَّه تفسير فسَّره واحد، أو اشترك فيه جماعة، ويكون المترجم هو التفسير الذي يذكر معنى القرآن على وجهه نظر المفسر؛ لأنَّ القرآن أعلى كلام بليغ في الوجود، والكلام البليغ لا يمكن ترجمته من لغة إلى لغة محتفظًا ببلاغته؛ لأنَّ البلاغة تتضمَّن إشارات بيانية، ونغمَات فيها موسيقى، وحلاوة ألفاظ، وتآخيها، وجمال أسلوبه، وتساوق معانيه، ولا يتوافر لأحد من الناس أن ينقل كل الصفات البيانية والبلاغية للألفاظ القرآنية، وقد حاول في اللغة الفرنسية بعض العلماء الأوربيين المتخصصين في العربية ترجمة القرآن برتبته البلاغية، فقضى في محاولة ترجمة آية مدة طويلة، وانبتَّ دون ذلك.
د - وأن القرآن الكريم له عدة قراءات متواترة، وكل قراءة، وهي متلاقية في معانيها، وليست يقينًا متضاربة، بل إنَّ بعض القراءات تزيد معاني عن القراءة الأخرى، أو توجه معناها في اتساق محكم دقيق لا خلل فيه، بل لا يتصوّر قط أن يكون فيه خلل، وإنَّ التفسير المحكم هو الذي يذكر ذلك التلاقي، فمثلًا قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] فقد قرِئَت بضمِّ الفاء، وهي تدل على أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام من العرب أنفسهم، وليس غريبًا عنهم، وقرِئَت بفتح الفاء، وهي تدلَّ على أنه من أعلاها نسبًا وخلقًا ومكانة وشرفًا، وبضم القراءتين يكون المعنى أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام من أعلى العرب.
هذه بعض الأسباب التي توجب أن يكون للقرآن تفسير، وإن كان بيِّنًا مفهومًا، وهناك وجه للتفسير لا بُدَّ من الإشارة إليه، وهو بيان الأسرار التي تضمنتها ألفاظ القرآن، وتضمنها علم الكتاب من غير إرهاق للألفاظ، ولا إعنات لمعانيه.
وإن من كتب التفسير ما حاول الكاتبون لها بيان الأسرار البلاغية في بعض ألفاظ القرآن كالزمخشري كما أشرنا، ومن جاء بعده من المفسرين الذين نهجوا منهاجه وزادوا عليه، وقالوا في آيات مثل قوله، وثَمَّة آيات لم يتعرَّض لبيان أوجه البلاغة فيها.
مناهج التفسير:
246 - إنَّ المناهج في التفسير تختلف باختلاف ما يستعين به المفسر من مصادر التفسير، وإنَّ الذي يمكننا أن نحصيه من مصادر التفسير للقرآن أربعة:
أولها: المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: المأثور من أقوال الصحابة الكرام، وتلاميذهم الذين اتبعوهم بإحسان، ونقلوا تفسيرهم؛ كمجاهد الذي نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ثالثها: اللغة؛ إذ هي في ذاتها أداة التعبير، ولا يمكن الاستغناء عنها في أيِّ منهاج من مناهجه، فهي لا تعد مصدرًا مستقلًّا؛ إذ هي تدخل في كل المصادر.
رابعها: الرأي، وهو يعتمد ابتداءً على اللغة، وعلى مصادر الشريعة ومواردها ومراميها، وغاياتها، وأسرار القرآن، وتعرُّف وجوهه.
ولا شكَّ أنَّ اللغة هي الأساس الأول لكل هذه المصادر، ولا نقصد باللغة ما تومئ إليه المعاجم فقط، فإنَّ تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون مخالفًا للعربية ومعانيها؛ لأنه العربي الذي ينطق بجوامع الكلم، وليس في الكلام العربي ما يكون أصدق مصدر للاستعمال العربي الصحيح من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم.
247 - ولننتقل من بعد إلى الكلام في المصادر الثلاثة الأخرى.
فأولها: وهو أعظمها السنَّة؛ لأنها الشارح الأول للكتاب الكريم، وإنَّ أحكام الحلال والحرام لا تفصيل لها إلَّا في السنة، وهي المصدر الوحيد لها، ومن خالف تفسير السنة للحلال والحرام في القرآن فهو من المفترين على القرآن الكريم، ويكون داخلًا في نهي قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]؛ وذلك لأنَّ هذا القسم من القرآن الكريم تكفَّلت به السنة النبوية؛ لأنَّ هذا من تبليغ الرسالة المحمدية وهو معناها، ومن يعارضها إنما يعارض تبليغ الرسالة النبوية، ويفتري على الله الكذب، فكل ما في القرآن من أحكام فقهية سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بتنظيم المجتمع الإنساني الذي يبتدئ بالأسرة، ويتدرج إلى الجماعات ثم الأمة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المسلمين بغيرهم من الأمم في السلم والحرب، كل هذا بيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو حجة علينا يجب اتباعه.
والصحاح التي بين أيدينا فيها بيان الأحكام الشرعية بيانًا كاملًا كما وردت في السنة.
هذا، ويجب التنبيه إلى أنَّ الاتجاه إلى تفسير القرآن من غير اعتماد على السنة والاستعانة بها في هذا الباب خروج على الشريعة، فقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، والذين يتركون السنة زاعمين أنهم يأخذون بالقرآن يهجرون القرآن والسنة معًا، ويحاربون تبليغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لرسالة ربه.
ويلاحظ أنَّ السنة قسمان:
سنة متواترة: رواها جمع عن جمع حتى تصل الرواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من السنة يجب الأخذ به في بيان الأحكام، بيان معاني العقائد التي اشتمل عليها القرآن الكريم؛ لأنها ثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسند قطعيّ لا شبهة فيه، والعقائد لا تثبت إلَّا بدليل قطعي الدلالة وقطعي السند، ولذلك يقول الشافعي لمن يخالف الأحاديث المتواترة ويسميها أحاديث العامة، يقال له: (تب).
والقسم الثاني: أحاديث الخاصَّة كما يسميها الشافعي رضي الله تعالى عنه، وهي التي لم يبلغ سندها حد التواتر، ويسميها علماء السنة أحاديث الآحاد، ولو رواها اثنان أو ثلاثة، ما دام رواتها لم يبلغوا حدَّ التواتر الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب.
وهذا النوع من الأحاديث يعمل به في تفسير الآيات التي تتعلق بالأحكام؛ لأنها تفيد غلبة الظنِّ بالنسبة للصدق، وقد ثبت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم؛ ولأنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الأقاليم آحادًا، ولا يرسلهم جماعات.
ولا يلزم الأخذ بأحاديث الآحاد في تفسير الآيات التي تتعلق بالعقائد من ضرب الأمثال، وذكر أسرار الكون من خلق السموات والأرض، ومن سير الشمس والقمر، وتسخير الرياح والأنهار والبحار، وغير ذلك، فإنَّ ما يتلعق وكل ما ورد فيه من السنة أخبار آحاد، أو رواتها غير ثقات لا يعتبر حجة في تفسير القرآن وفهمه، بحيث يجب الأخذ به، ومخالفته تكون مخالفة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه من الثابت أن ما يجيء في السنة مخالفًا للمقررات العلمية القاطعة، ويكون من أحاديث الآحاد يرد وتبطل نسبته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس معنى ردّه تكذيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إنَّما معنى رده أنه لم تصح نسبته إلى النبي وهو الصادق. ونقول مقالة الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ردَّدها الشافعي، وهي قوله: (أيّ أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن ما لم أعلم).
وإنَّ دراسة الآيات الكونية للعقل والاستقراء والتتبُّع مقام في إداركها، ما لم تخالف نصًّا قرآنيًّا أو حديثًا نبويًّا متواترًا، وليس في الأحاديث المتواترة ما يعارض هذه الدراسة قط، والله أعلم.
وهنا أمر آخر يتعلق بالقصص القرآني، ونقول فيه: إنَّ القرآن يفسِّر بعضه بعضًا في هذا القصص، وما يجيء من السنة من زيادة على القرآن في هذا يقبل منه ما لا يناهض القرآن، وما يزيد يقبل ما دام السند صحيحًا، وليس ثمَّة ما يردّه سندًا أو متنًا، ولا يجب الإيمان بالزيادة؛ بحيث يكفر من ينكرها ما دامت أحاديثها لم تصل إلى مرتبة التواتر، ولكن ما لم يكن مطعن فيها يؤخذ بها على أساس الاطمئنان إليها.
هذه هي السنة، وهي تعدُّ المرتبة الأولى في تفسير القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
248 - أمَّا المرتبة التي تلي مرتبة السنة فهي أقوال الصحابة في فهم معاني القرآن الكريم، فكلامهم في هذا له اعتبار في فهم الكتاب العزيز لما يأتي:
أ - إنَّ الصحابة هم الذين سمعوا القرآن الكريم ابتداءً، وهم الذين شاهدوا وعاينوا، وتلقَّوا التفسير عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان ما يبهم عليهم يسألون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنه، ويروى عن ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان كلما تلا عليهم طائفة من الآيات تولَّى تفسيرها لهم، فكان تفسيرهم أقرب إلى السنة، بل يعده الكثيرون من السنة، ما دام لا يمكن أن يكون للرأي فيه مجال.
ب - أنهم الذين شاهدوا أسباب النزول، وعلموا في أيِّ موضع نزلت آي الكتاب الكريم، وأسباب نزولها، ولا شكَّ أن أسباب النزول طريق معبَّد لفهم الكثير من الآيات الكريمات؛ لأنَّ أول ما ينطبق عليه المعنى للآية القرآنية هو ما كان سببًا لنزولها، ثم يعمّم الحكم بعموم اللفظ جريًا على قول الفقهاء في محكم قواعدهم (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
ج - وإنَّ الصحابة أعلم الناس بمعاني الألفاظ القرآنية من العرب، ومن أعلم الناس بلغة العرب، وما يكون غريبًا بالنسبة لنا لا يكون غريبًا بالنسبة لهم، والألفاظ معروفة معانيها لهم.
وإنَّ المتتبع للمأثور عن الصحابة في تفسير القرآن الكريم يرى الرائي بادي النظر أنه قسمان:
أحدهما: ما اعتمد فيه على المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يكون سنة نبويّة وتفسيرًا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا مجال للريب في نسبته إذ كان السند إلى الصحابي صحيحًا، وذلك في تفسير الآيات التي ليس للرأي فيه مجال، فتفسيرهم يكون حديثًا إذا نسبوه مرفوعًا للنبي عليه الصلاة والسلام، ويكون موقوفًا إذا لم يسندوه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يمكن أن يكون للعقل فيه مجال، ولا يمكن أن يقولوا في موضع لا مجال للعقل فيه إلَّا بقول المبلغ صلى الله تعالى عليه وسلم، آخذين بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
والقسم الثاني: ما يكون للرأي فيه مجال ولا يسندونه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل هو مجرَّد الرأي منهم، وإنهم في هذا قد يختلفون، وذلك في بعض الأحكام الفقهية التي لم يرد فيها نصّ من الكتاب ببيان الحكم، ومن ذلك قولهم في عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، فقد اختلف الصحابة في تفسير آيات العدة، ففريق منهم، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب أعمل الآيتين الواردتين وهما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [البقرة: 234]، والآية الثانية هي قوله تعالى في سورة الطلاق: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فقال هذا الفريق من فقهاء الصحابة: إنَّها تعتدّ بأبعد الأجلين، أي: تعتد بوضع الحمل إذا كان بعد مضي أربعة أشهر وعشر، وتعتد بالأشهر إذا كان وضع الحمل قبل انتهاء المدة.
وقالت طائفة أخرى، وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود أنَّها تعتدُّ بوضع الحمل، آخذًا بعموم اللفظ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؛ لأنه يشمل المتوفَّى عنها زوجها الحامل، كما يشمل المطلَّقة.
واجتماع فقهاء الصحابة على رأي فقهي يكون حجة، وكذلك إذا لم يرد عنهم في تفسير الآية التي تتعلّق بالحلال والحرام إلَّا رأى واحد، وإذا اختلفوا جاز للفقهاء المحبذين أن يختاروا من آرائهم، ولا يخرجون عنها.
249 - وإن الموضوعات التي أثرت عن الصحابة آراء فيها مختلفة من حيث قوة الأخذ برأي الصحابي فيها.
وأولها ما يتعلق بالحلال والحرام، وقد علمت القول فيه، إذا كان مبناه الرأي، والقبول المطلق إذا لم يكن للرأي فيه مجال.
ومهما يكن الأمر بالنسبة لآيات الأحكام، فإن أقوال الصحابة وأعمالهم تتبع في فهم الآيات الخاصَّة بالحروب والصلح، والمعاهدات والأمان، وأحكام الذميين والمستأمنين، وجمع الغنائم وتوزيعها، وفرض الخراج والجزية.
وكان عهد الفاروق عمر رضي الله عنه عهدًا خصبًا لبيان الأحكام الشرعية فقرَّرت فيه المبادئ الإسلامية المستفادة من القرآن، وتعَدُّ معينًا لفقهاء استقوا منه آراءهم في نظم العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم في السلم والحرب، وقد استقاها هو من فهمه لكتاب الله تعالى، وإدراكه لمراميه.
ولذلك نجد كتب السِّيَر أخذت من ذلك المعين، فكتاب (الخراج) للإمام أبي يوسف، الأصل الذي اعتمد عليه هو عمل عمر رضي الله عنه الذي نفذ ويفهمه من القرآن الكريم.
وكذلك الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه (السير الكبير) قد أخذ أكثره من عمل الصحابة، وخصوصًا عَمَل عمر الذي استنبطه من القرآن الكريم، ويعدُّ كتاب (السير الكبير) أول كتاب ألِّفَ في القانون الدولي الذي يقوم على قواعد العدل والرحمة، والكرامة الإنسانية، كذلك كتاب السِّيَر للأوزاعي، وغيره من الكتب كان اعتمادها على ما عمل به الصحابة أخذين ذلك من فهمهم لمرامي القرآن الكريم.
ومن الموضوعات التي أثَّر عن الصحابة أقوال فيها في تفسير وفهم معانيه آيات القصص في القرآن الكريم، وليس الرويّ عنهم في ذلك كثيرًا، والصحيح النسبة إليهم رضي الله عنعهم - قدر ضئيل.
وذلك لأنهم ما كانوا يعنون إلَّا بما له أثر عملي يتعلَّق بالحلال والحرام، وما له أثر في أعمالهم، وتنظيم جماعتهم، وإقامة الحق والعدل في الأرض.
وكانوا يعتمدون في فهم القصص القرآني على السنة الصحيحة، وعلى تفسير القرآن نفسه بعضه لبعض، وكانوا يكتفون بما جاء في القرآن والسنة، ولا يزيدون عليه؛ لأنه هو الصحيح، ولا يحاولون أن يعرفوا ما عداه.
ولكن لمَّا دخل في الإسلام اليهود والنصارى، وبثّوا في المسلمين ما عندهم من قصص وأساطير، وجد بين المسلمين من يُعْنَى بالقصص غير مقتصر على القرآن الكريم والسنة النبوية، وظهر ذلك في آخر عصر الخلفاء الراشدين، ولم ينظر الصحابة إلى ذلك نظرة راضية أو متغاضية، بل نظروا إليه نظرة غير متساهلة، لما قد يجرُّ إليه من نشر أساطير ما أنزلها الله، وربما أوجدت غيامًا على معانيه.
لقد ظهرت في آخر عصر الصحابة طائفة من التابعين سمّوا القصاص، وقد جاء علي رضي الله عنه وكرَّم وجهه - وأخرج أولئك القصاص من مسجد الكوفة، وكانوا قد انتشروا في العراق، فكان رضي الله عنه يمنعهم إلَّا إذا التزموا في قصصهم ما اشتمل عليه القرآن، وما صحَّ في السنة النبوية على صاحبها - أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
ويروى أنه دخل المسجد فأخرج كلَّ من فيه من القصاص، ووقف عند الحسن البصري، فرآه لم يخرج في قصصه عن القرآن، والدعوة إلى هدايته.
ومن الموضوعات التي أثر عن الصحابة - رضوان الله تبارك وتعالى عليهم - كلام في الكونيَّات التي اشتمل عليها القرآن الكريم، وعدة الرواة الذين نسبوه إليهم تفسيرًا للآيات الكونية، ونقول فيه: إنَّه لايؤخذ به على أنه حجة إلَّا إذا كان صريح كلام الله تعالى، أو قد ثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسند قطعيّ، أمَّا ما يقال فيما عدا ذلك مما يتصل بالكون وخلق الله تعالى فإنه خالف علمًا قطعيًّا لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالكون، فإنه يرد إلى صاحبه.
التابعون والإسرائيليات:
250 - التابعون هم تلاميذ الصحابة الذين نقلوا إلى الأخلاف أقوالهم في التفسير، وإن ما ذكر على أنه أقوال للتابعين عن الصحابة فيما يتعلَّق بالأحكام الفقهية مقبول النقل، ويعتبر نقلهم عن الصحابة حجة عند أكثر الفقهاء على ما قررنا في اعتبار أقوال الصحابة حجة.
ولكن التابعين إذا قالوا في الحلال والحرام مفسِّرين للقرآن برأيهم، فإنَّا إذا استثنينا أحمد بن حنبل وبعض المالكية، فإنَّ باقي الأئمة لا يعتبرون قولهم حجة في ذاته، إنما يكون ما أيده من دليل هو الحجة، ويقول فيهم أبو حنيفة: إذا آلَ الأمر إلى الحسن وإبراهيم، فهم رجال ونحن رجال.
ولكن الكلام في القصص والكونيات، وبعض ما يتعلق بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم دخله الإسرائيليات، وكثرت في كتب التفسير، وتجاوزت الحد، وردَّ بعض التابعين كثيرًا من الإسرائيليات.
بل إنَّ بعض الصحابة نقل عن الإسرائيليين، فإنه يروى أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب في واقعة اليرموك حمل زاملتين من كتب أهل الكتاب.
ولا يمكن أن يكون كل ما في هذه الحمولة صحيحًا عن أهل الكتاب الذين تمسَّكوا بالتوراة أو الإنجيل من بعدها، ولا نعلم على وجه اليقين أكان ابن عمرو بن العاص لا يختار منها إلَّا ما يوافق الكتاب والسنة الصحيحة، أم كان يتجاوزها إلى ما يناقضها، أم يسير وراء ذلك.
ولكن من المؤكَّد أن ما في الزاملتين لا بُدَّ أن تناقله التابعون، وليسوا جميعًا ممن يلتزمون، ولا يسرفون، فلا يمكن أن نقرِّر سلامة ما يأخذون.
ولقد توقَّف العلماء في قبول الإسرائيليات التي راجت حول التفسير في قبولها، وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما علم صدقه؛ لأنَّ القرآن يوافقه، ولا تجافيه ألفاظه المحكمة، أو لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم نقل عنه بسند صحيح ما يوافقه، وهذا بلا شك لا يكذب، ولكن لا نجد فيه غناء عن السنة، ولا نجده يسد حاجة وخللًا لو لم يوجد لا تسدّ، ولذلك نرى الأَوْلَى ألَّا يلتفت إليه؛ لأن السنة والقرآن يغنيان، وسدًّا للذريعة لا يعتمد عليه؛ لأن قبول بعض المروي عن اليهود الذي لا زيف فيه، يسهل قبول الزيف، وهو الأكثر، وهو الذي تعمَّدوا به أن يفسدوا علينا أمر ديننا، وإذا كانوا لا يستطيعون تحريف القول فيه عن مواضعه، فإنهم يجدون في التفسير طريقًا لإفساد العقول حول معاني القرآن الكريم.
القسم الثاني: ما ثبت كذبه بيقين، وهو ما يناقض معاني القرآن الكريم، ويخالف الصحيح المتواتر من السنة، أو يخالف منطق الإسلام، وإن هذا يرد بالاتفاق، وإن المستقرئ لكتب التفسير المشتملة على الإسرائيليات يرى أنّ أكثر ما دسّ فيها من هذا القبيل.
القسم الثالث: الذي لا يأتي بما يخالف النصوص القرآنية، ولا الأحاديث النبوية، ولكنه في جملته أخبار تحتمل الصدق والكذب، ويقول ابن تيمية في هذا القسم: لا نؤمن به ولا يمكن أن يكون فيه فائدة إسلامية، ومن ذلك ما يذكرون حول أسماء أهل الكهف، ولون كلبهم، ومن ذلك أيضًا وصف عصا موسى.
تفسير القرآن بالرأي:
251 - ذكرنا من مصادر التفسير: اللغة، والسنة، والصحابة مع تلاميذهم التابعين، وما دخل عصر التابعين من إسرائيليات دخلت التفسير وتناقلتها كتبه مع تمحيص أحيانًا، وسكوتٍ في كثير من الأحيان.
والمرتبة الرابعة في التفسير تفسير القرآن الكريم بالرأي، أي: بالنظر المجرَّد الذي لا يخالف اللغة، بل يستعين بمناهجها، ولا يخالف السنة، بل يعتمد على الصحيح من أسانيدها إن صحَّت عنده، ولا يناقض تفسير الصحابة المأثور، ولا أسباب النزول التي صحَّت بسند صحيح.
والتفسير بالرأي على هذا النحو تضاربَت فيه أقوال العلماء، فبعضهم توقف، ومنع أن يفسر القرآن بالرأي، بل لا بُدَّ لبيانه من علم السنة، ومنه علم الصحابة، وما يجتمع عليه التابعون.
وقد ناصر ذلك الرأي وشدَّد في التمسك به شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يقول: (أمَّا تفسير القرآن بالرأي فحرام).
ويستدل على ذلك بأخبار منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأخبار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
أ - ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».
ويعد ابن تيمية أنَّ من يفسِّر القرآن برأيه يقول بغير علم، ونحن نقول: إنّ الحديث خاص بمن لم يؤت أدوات التفسير من علم باللغة ومصادر الشريعة ومواردها ومرامي الإسلام وغاياته، والعلم بأساليب البيان، والعلم بجملة المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو الذي يقول بغير علم، أمَّا من أوتي علم اللغة والبيان وعلم الآثار وعلم الإسلام فإنّه إذا قال في التفسير معتمدًا على رأيه إن لم يكن نصّ يعارضه، فإن الخبر لا ينطبق عليه.
ب - ومن ذلك أيضًا ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «من أخذ في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
ولقد قال الترمذي فيه أنه غريب، وقد تكلموا في بعض رواته، فليس سنده سليمًا، ومتنه غريب.
ج - ومن ذلك ما يروى عن كبار الصحابة من نهيهم عن القول في القرآن إلَّا إذا كانت سنة صحيحة يستأنسون بها، ورميهم بالتكلف من يحاول علم كل ما في القرآن.
ومن ذلك ما روينا عن أبي الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أيّ أرض تقلني، وأيّ سماء تظلني، إذا قلت في القرآن ما لم أعلم) وقد روي عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كنَّا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ {وفاكهة أبَّا} فسأل بعض الحاضرين: ما الأب. ثم عدل عن السؤال وقال: إن هذا هو التكلُّف فما عليكم ألا تدريه).
وإن الناظر إلى ما روي مستندًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه ضعيف لا يصلح أن يكون حجة، وبعضه لا يدل على منع الاجتهاد بالرأي، فيفهم القرآن إن لم تكن سنة مسعفة، وما روي عن أبي بكر إنما يدل على أنَّ الممنوع أن يقول في القرآن بغير علم، وعمر رضي الله تبارك تعالى عنه أراد أن يضرب الأمثال للناس بأن يبيِّن لهم أنَّ القرآن بحر عظيم عميق مملوء بالمعاني، فلا يصح لأحد أن يدَّعي أنه تقصَّاه وعرف أطرافه، وخشي أن يظن أحد أنه يحاول ذلك عندما سأل عن معنى كلمة (الأب) فعدل عن السؤال.
ونحن لا نرى فيما ساقه ابن تيمية - جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرًا - ما يدل على المنع، ولكن يدل على وجوب الاحتياط في فهم القرآن، وأن يكون بين يديه من دلائل العلم وبيناته ما يجعله يقول عن بينة، ولا ينطبق عليه النهي في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لإسراء: 36].
وإذا كان ابن تيمية قد عدَّ التفسير بالرأي منهجًا مهجورًا أو يجب أن يهجر، فعلى أيّ شيء اعتمد! إنه اعتمد على أربعة مصادر:
أولها: القرآن؛ إذ إن القرآن يفسر بعضه بعضًا، فهو يبين أحيانًا في موضع ما أجمله في موضع آخر، ويوضِّح أحيانًا في موضع ما يبدو بادي الرأي أنه مبهم في موضع آخر، ويجمع آيات القرآن إذا تصدَّت لموضوع واحد يستطيع القارئ المتفهّم أن يفهم بعض القرآن ببعضه.
وإنَّ ذلك بلا شكٍّ نوع من الرأي والاجتهاد، ولكن ابن تيمية لا يمنعه بل يوجبه كخطوة أولى.
وثانيها: السنة؛ إذ لم يستطع القارئ أن يفهم القرآن من القرآن، فإنه يتجه إلى السنة كما أسلفنا تحقيقًا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا إني أوتيت علم الكتاب وأوتيت مثله معه».
وثالثها: ما قاله الصحابة في تفسير القرآن، كما ذكرنا من الأسباب في موضعه، وقد روي أن عبد الله بن مسعود قال: (والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلَّا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت).
ورابعها: أقوال التابعين في التفسير بتعرّف ما قالوه نقلًا عن الصحابة.
وتتعرف في هذا - السنة بكل طرائقها، وأنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو المبلغ للرسالة والمفسر للقرآن لا يمكن أن يترك شيئًا من القرآن قابلًا للبيان، ولم يبينه.
252 - هذا منهاج المتوقفين الذين يرون أن تفسير القرآن بالرأي غير جائز، وإنما يعتمد في بيان القرآن على السمع وحده، إمَّا عن الرسول أو عن صحابته أو عن تلاميذهم، وأنَّ الخروج عن هذه الدائرة خلع للربقة، وتهجُّم على القرآن الكريم بغير علم، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يترك القرآن من غير بيان.
وأنَّ هذا الكلام ينطبق كل الانطباق على الذين لا يعرفون أنَّ السنة بيان للقرآن، ولا يأخذون به بل يتركونه، وإن مثلهم في هذا كمثل الذين يعرفون الحكم الشرعي الثابت بالسنة، ويتركونه نسيًا منسيًّا.
وإنه في آيات الأحكام يجب الاتجاه إلى السنة ابتداءً ولا يتجه إلى غيرها إلَّا على ضوء منها وتعرّف لمرامي الأحكام، وغاياتها منها، وإذا كان ثمَّة رأي فعلى ضوءها وبقبس من نورها.
وإن الذين أخذوا في تفسير القرآن بالرأي في مقابل الذين توقفوا سلكوا مسلك الفقهاء الذين أخذوا بالقياس إن لم يجدوا في الموضوع نصًّا، فهم لا يتركون السنة، ولكن يأخذون بالرأي إذا لم يجدوا سنة مفسرة، وهم لا يقتصرون على الأخذ في غير موضع السنة، بل إنهم عند وجود السنة لا يناقضونها، ولا يغايرونها، بل يأخذون بها ويسيرون فيما وراء ما ثبت بالسنة إلى ما تدل عليه الألفاظ من إشارات بيانية، ويحاولون أن يتعرفوا من وراء ذلك الأسرار البلاغية في القرآن الكريم.
ولذلك كان هذا المسلك مسلك الذين حاولوا تعرف إعجاز القرآن، وعلى رأسهم الإمام جار الله الزمخشري، ومن قبله كان الإمام الطبري عندما كان يبدي رأيه بعد أن يسرد من الروايات الصحيح والسقيم.
والإمام حجة الإسلام الغزالي كان ممن سلكوا ذلك المنهاج، وأثبت بالأدلة العلمية أنَّ التفسير بالرأي من غير مناقضة للسنة جائز، ويستدل على ذلك:
أولًا: بأنَّ القرآن فيه كل علوم الدين، بعضها بطريق الإشارة، وبعضها بالإجمال، وبعضها بالتفصيل الذي يفتح الباب للفكر المستقيم، والاستبصار في حقائقه، وذلك لا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر الآيات، ولا ظواهر أقوال السلف، بل لا بُدَّ من التعمق من غير تكلف، واستخراج المعاني ما دامت لا تخالف المأثور، وهناك أمور وراء المأثور، يسير المفسِّر على ضوء المأثور، ولقد قال عبد الله بن مسعود: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن)، وإن ذلك لا يكون بغير التعمق في الفهم، من غير تكلف، وتعرف الغايات بالإشارة والمرامي.
وثانيًا: أنَّ القرآن الكريم فيه بيان صفاته تعالى وأفعاله، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى، وإنَّ فهم ذلك مع التنزيه عن المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وفهم من غير الوقوف عند الظواهر، وجمع بين المؤتلف ونفي للقول المختلف.
ثالثًا: أنَّه قد وردت الآثار تدعو إلى الفهم والتدبُّر في معاني القرآن، فقد قال علي - كرَّم الله وجهه: (من فهم القرآن فسر به جمل العلم، وذلك لا يكون إلَّا بالتعمق في الفهم).
ورابعًا: إنَّ عبارات القرآن الكريم تدعو إلى التعمق في الفهم، فقد قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ويقول مفسرو السلف: إنَّ الحكمة هي فهم القرآن، وإذا كان الله تعالى قد وصف فهم القرآن بأنه خير كثير، فإنه سبحانه وتعالى - يدعو القادر على إدراك هذه الحكمة؛ لينال من علمها خيرًا كثيرًا.
وخامسًا: إنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما - بالفقه في القرآن، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، وليس التأويل إلَّا التفسير العميق الذي يتعرَّف به القارئ ما وراء العبادات من معانٍ دقيقة عميقة، ولو كان كل علم التفسير مأثورًا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم علمه التأويل).
وإنَّ الغزالي لا يكتفي بسوق ما تؤدِّي إليه الأدلة من جواز التفسير بالرأي، بل يتجاوز فيقول: إنَّ المأثور من التفسير بالسنة قليل لا يشمل القرآن كله، ويذكر أن ما يؤثر عن الصحابة في التفسير إنما هو رأيهم، وعلينا أن نتبعهم بإحسان، فنجتهد في تفسير القرآن مثل اجتهادهم من غير معارضة، ولا مناقضة.
ثم إنَّ الصحابة فيما بينهم قد اختلفوا، وكذلك التابعون من بعدهم، واختلافهم دليل على أن بعض هذه الأقوال بالرأي لا محالة، ويجوز أن يكون بعضها بالسمع، ولكنَّه غير معروف، ولو كان واجبنا أن نختار من أقوالهم عند اختلافهم، فالاختيار أساسه الترجيح بالرأي بقبول بعضها وردِّ بعضها، وذلك في ذاته أشد من الأخذ بالرأي ابتداءً ما دام غير معارض للمأثور.
253 - هذا ما ساقه الغزالي من أدلة في جواز الفهم بالرأي الذي لا يعارض السنة ولا يتزيّد عليها بما يخالفها، وإن أدلَّته مستقية منتجة لما يقول، بيد أنَّ قوله أنَّ المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التفسير محدود وقليل، إنما هو في غير الحلال والحرام، أمَّا ما يتعلق بتفسير القرآن في الحلال والحرام فإن ما ورد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك كثير وليس قليلًا؛ لأنه بيان الشريعة، وتبليغ رسالة الله؛ إذ إنّ التكليفات لا بُدَّ أن يبينها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يتركنا إلَّا وقد بيِّنَ ما يجب على المكلفين فعله، وما يجب عليهم تركه، إمَّا بالنص عليه، وإمَّا بذكر ما يدل على أصل الشرع الذي يقاس عليه، وتناط به الأحكام، وتقام عليه مصالح الأنام، وأحاديث الأحكام أكثرها في تفسير الآيات المتعلقة بالأحكام، وأكثر الأحاديث المروية في هذا المقام ثابتة بسند صحيح تبنى عليه الأحكام بالتحليل والتحريم.
254 - والغزالي وغيره من العلماء الذين سوَّغوا تفسير القرآن بالرأي، بل إن عباراتهم تومئ بوجوبه في غير موضع الأثر المروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسند صحيح، هؤلاء قد منعوا التفسير بالرأي في موضعين يكون الرأي فيهما مذمومًا:
أول هذين الموضعين أنَّ يفسر القرآن بهواه، أو أن يحاول حمل الآيات على مذهبه أو رأيه، بأن يكون له في موضوع الآية رأي معين، وله ميل له بطبعه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ليحتجَّ به، ولو لم يكن له ذلك المذهب ما كان يظهر له ذلك التفسير، وإنَّه ليتجه ذلك الاتجاه، ويئول ظاهر الآية لتساير مذهبه، وينزلها عن علياء بيانها إلى حيث رأيه.
وأحيانًا يفعل ذلك غير قاصد حمل الآية على مقتضى رأيه، ولكن امتلاء عقله وقلبه بهذا الرأي يجعله يتَّجه إليه غير قاصد مجرَّد ترجيح مخيلته، ويلبس عليه الأمر فيظن ما قاله ظاهرًا، وما هو بظاهر.
فهذا بلا ريب تفسير بالرأي مذموم، ويكون من المنهي عنه؛ لأنَّ القرآن الكريم فوق الآراء والمذاهب، وليس خاضعًا لها.
وإنه من نوع تفسير القرآن بالهوى لا بالرأي المبني على النظر الخالص لوجه الحقيقة.
الموضع الثاني الذي يكون فيه التفسير بالرأي مذمومًا: يكون في المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الآيات، والاقتصار على هذه الظواهر من غير تعرف للمنقول في موضوعها، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض، ومن غير تعرف للعرف الإسلامي الذي خصص بعض الألفاظ العربية، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من القرآن من حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، ومن غير إدراك مواضع الإضمار والحذف والتقديم والتأخير، وغير ذلك من الأساليب البيانية القرآنية المعجزة.
فإنَّ ذلك يكون مذمومًا؛ لأنَّه تفسير بالرأي من غير إدراك لمعاني الألفاظ في عرف الإسلام، وبغير مؤهلات، واجتهاد في الفهم من غير التسلّح بأدواته، وحينئذ يكون الخطأ ويكون السقط.
فهذان هما الموضعان اللذان يذمّ الرأي فيهما.
وفي الحق أنَّ هذا ليس تفسيرًا بالرأي المجرَّد، إنما هو من الهوى أو التهجم، والتهجّم على ما لا يحسن، والعمل فيما لا يتقن، وذلك قبيح في كل شيء.